رَأْيٌ في دالِيَّةِ الشَّقْصِيِّ
رِسالةُ الْقَصيدَةِ
أيُّ خَطْبٍ تُرى ذلك الذي شغل الفقيه الفارس عن فِقْهِهِ وعن فُروسيَّتِهِ !
أيُّ مَوْقِفٍ تُرى ذلك الذي وقفه بين نار الخوف وبرد الرجاء ، خميسُ بْنُ سَعيدِ بْنِ عَليِّ بْنِ مَسْعودٍ الشَّقْْصيُّ الرُّسْتاقيُّ الْعُمانيُّ المولودُ في آخر القرن العاشر الهجري ، القائمُ في القرن الحادي عشر على دولة اليَعارِبة ، بروحه وجسمه !
أيُّ هَمٍّ حَزَبَهُ حتى صَدَرَهُ ، وأَفْحَمَهُ حتى نطق الشعر !
وَطْأَةُ الْخَطْبِ
1 إِلى اللهِ مِنْ خَطْبٍ عَلى النَّاسِ قَدْ غَدا فَأَصْمى قُلوبًا غافِلاتٍ وَأَكْبَدا
2 وَرَوَّعَ أَهْلَ الأمْنِ في مُسْتَقَرِّهِمْ وَعَمَّ جَميعَ الْحاضِرينَ وَمَنْ بَـــــــدا
3 وَضَجَّتْ لَهُ السَّبْعُ الطِّباقُ وَأَرْجَفَتْ لَهُ الأرْضُ وَالأَلْبابُ طاشَتْ تَبَلُّدا
4 عَظيمٌ عَلَيْنا وَقْعُهُ وَحُلولـُــــهُ وَفـــــاةُ أَميرِ الْمُسْلِمينَ ابْنِ مُرْشِـــــدا
البوسعيدي (السيد حمد بن سيف بن محمد) : "قلائد الجمان في أسماء بعض شعراء عمان" ، نشرة مسقط ، سنة 1413 هـ = 1993 م ، ص 84 – 86 . وقد وقعت بالقصيدة أخطاء كثيرة جلية وخفية صححتُها ، تكشفها موازنة ما هنا بما هناك.
لقد مات بين يديه رَبيبُه الإمام الجليل ناصِرُ بْنُ مُرْشِدٍ الْيَعْرُبيُّ ، الذي نشأ على عينه ، وأمَّ المسلمين بيده ؛ فدرأ الله به الفتنة ، وعَصَمَهم من الذِّلة ، وجعله عند حسن ظنه وظنهم .
الحارثي (سالم بن حمد بن سليمان) : "تحقيق (منهاج الطالبين وبلاغ الراغبين)" ، طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بالقاهرة ، نشرة وزارة التراث القومي والثقافة العمانية ، 6 - 8 ، والعجيلي (قائم محمد رميض) : "قيام حكم دولة اليعاربة وانهياره في عمان 1624م-1749م : دراسة في التاريخ السياسي" ، طبعة 1987 م ، 59 .
لقد فدحته وطأة الخطب ، حتى لقد حار كيف يسمي (فِعْلَ) اتجاهه " إلى الله " : (ألجأ) أم (أبرأ) ، أم غيرَهما ؛ فأسرَّه في نفسه إشفاقا على المسلمين ، ولم يُبْدِهِ لهم رائيًا أنهم وإياه ، كانوا غافلين عن نعمة الله بالإمام عليهم وهو بينهم .
ولسعته نار الخوف ، حتى لقد رأى طبائع الأشياء (الناس والكون) تكاد تختل وتتحول عما خلقها الله وعهدها هو عليه ؛ فأحس لخطر الفتنة مثلما تكون أوائل العقاب بالتدمير .
أيُّ إمام ذلك الذي لم يكن هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ ، ولكنه بُنيانُ الأشياءِ (الناسِ والكونِ) ، قد تَهَدَّم !
تَأْبينُ الْفَقيدِ
5 إِمامُ هُدًى قـــــدْْ كانَ فينا مُبارَكًا وَكـــــــانَ بِتَوْفيقِ الإلهِ مُسَدَّدا
6 وَقَدْ كـــــــانَ لِلدُّنْيا وَلِلدّينِ قَيِّمًا وَلِلسّائِلِ الْعافي مَعاشًا وَمَوْرِدا
7 يَسوسُ رَعايــــــاهُ بِأَحْسَنِ ســــــيـرَةٍ فَحاطَهُمُ ذَبًّا وَعَمَّهُمُ نَدى
8 وَفَرَّقَ أَهْلَ الظُّلْمِ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ وَشَمَّرَ عَنْ ســاقٍ لَهُمْ وَتَجَرَّدا
9 وَأَظْهَرَ سُبْلَ الْحَقِّ بَعْدَ طُموسِهِ وَأَعْلى مَنارَ الدّينِ عَدْلاً وَشَيَّدا
10 تَبَدَّتْ لَهُ الدُّنْيا بِحُسْنِ جَمالِها فَغَضَّ وَأَثْنى الطَّرْفَ عَنْها تَزَهُّدا
11 قَضى نَحْبَهُ والْمُسْلِمونَ جَميعُهُمْ مُوالـونَهُ في اللهِ دينًا وَمَعْهدا
إنه الإمام العادل الذي يُعَجِّل الله له في الدنيا طَرَفًا من ظِلِّه الذي يُظِلُّه به يوم لا ظل إلا ظله ؛ فَيَتَفَيَّؤُهُ المسلمون .
لقد مَلَّكَهُ عليهم أولا زُهدُه في متاع الدنيا ، وغناه عما في أيديهم ؛ فأقروا له بالإمامة ، ومَلَّكَه عليهم آخِرًا حِكْمَتُهُ التي جمع فيها الترغيب والترهيب ، والمنح والمنع ؛ فأقروا له بالعدل .
ولما أقروا له عن رضا واختيار ، لا عن خوف واضطرار ، اقتحم بهم يَهْماءَ المهالك المُدْلَهِمَّة ؛ فانتزع الحق من براثن الباطل ، وكَبَتَ الظلم بآية الإنصاف .
* كيف للزمان أن يجود بفضله ، وللمكان أن يتسع لمثله !
لَوْعَةُ الْفَقْدِ
12 وَلَمّا رَأَيْتُ الْحامِلينَ تـســـــــــــابَقَتْ إِلى نَعْشِهِ أَيْديهِمُ قُمْتُ مُنْجِدا
13 بَكَيْتُ وَأَبْكَيْتُ الضَّراغِمَ حَوْلَهُ وَأَيْقَنْتُ أَنْ لا وَصْلَ يُرْجى وَمَوْعِدا
14 كَما جَلَّ فينا قَدْرُهُ عَزَّ فَقْدُهُ فَأَكْرِمْ بـــه حَيَّا وَمَيْتًا وَمُلْحَدا
15 سَلامٌ عَلى الدُّنْيا إِذا لَمْ يَكُنْ بِها فَتى مُرْشِدٍ مــا بَيْنَنا مُتَمَهِّدا
16 حَباهُ إلهُ الْعَرْشِ رَوْحًا وَراحَةً وَمُلْـــــــكًا كَبيرًا لَنْ يَبيدَ وَيَنْفَدا
يالَلْمُبْتَلى !
أيُّ ثأر للموت عنده حتى يفجعه بربيبه وتلميذه وإمامه !
كأنه لما بكى لانتحابه المسلمون ، أيقن أنها الحقيقةُ الواقعة المؤلمة : انقطاعُ حبل الدنيا بينهما ، ومَرَّ في فمه طعمُ الحياة ؛ فكرِه أن يحفظ لها نفسه !
أيـَّةُ قيمة للدنيا ، وقد رحل عنها خاليا مِنْها ، مَنْ مَلَكَ الشرق والغرب !
ولكن ملكه العريض باقٍ بعده لم يرحل معه ؛ فهل من يقوم عليه كما كان يقوم ، ويحفظه فيه بكرامة ما بَذَلَ له؟
بُشْرى الْخَلَفِ
17 وَلَوْلا فَتى سَيْفٍ وَتَجْريـدُ عَزْمِهِ لأمْسى جَمالُ الدّينِ مِنْهُ مُجَرَّدا
18 تَدارَكَ سَجْلَ الْمُلْكِ قَبْلَ انْكِفائِهِ وَقــــــدْ شارَفَتْ حيطانُهُ أَنْ تَبَدَّدا
19 وَمَرَّ عَلى نَهْجِ الْخَليفَةِ ناصِرٍ وَأَوْرى زِنـــــادَ الْحَقِّ حَتّى تَمَهَّدا
20 دَعَوْتُ لَهُ الرَّحْمنَ نَصْرًا وَعِصْمَةً وَفَتْحًا مُبينًا لا يـــزالُ مُؤَيـَّدا
21 لَقَدْ وَقـفـــــــــوا في مَوْقِفٍ يَعْلَمونَهُ يَقينًا بِأَنَّ الْمَوْتَ فيهِ تَرَصَّدا
22 فَلا ذَكَروا الدُّنْيا وَلا عَبِئوا بـهـــا وَلا جَزِعوا لِلْمَوْتِ حينَ تَعَمَّدا
23 فَلا فَخْرَ إِلا وَهْوَ دونَ فَخارِهِمْ وَجودُ الْفَتى بِالنَّفْسِ أَعْلى ُممَجَّدا
24 فَمَنْ كـــــانَ مُشْتاقًا إِلى اللهِ صــــادِقًا كَذا فَلْيَكُنْ ذا أُهْبَةٍ مُتَزَوِّدا
لقد خلفه على إمامة المسلمين سُلْطانُ بْنُ سَيْفٍ الْيَعْرُبيُّ ابْنُ عَمِّهِ ، فلم يكن إلا شِبْلاً من تلك المَأْسَدَةِ ؛ فَشَحَذَها لله هِمَّةً عالية ، وألقاها بين عينيه ، يصون أصول الدين ، ويحمي ثغور الملك ، راميا بنفسه المهالك ، ساخرا بالعوائق ؛ فابتنى لنفسه وأهله والمسلمين ، مجدا يُعْجِزُ من يصبو إليه إلا أن يَبْذُلَ فيه مِثْلَما بَذَلَ .
أترى يسلو ذكرى ربيبه وتلميذه وإمامه السالف ، أم ترى يقوى فيما بقي من حياته ، على نصرة إمامه الخالف ؟
سَلْوى الزِّيارَةِ
25 أَيا صاحِبي دَعْني وَمابي مِنَ الأسى وَلا تَذْكُرَنْ عِنْدي سَعيدًا فَأُجْهَدا
26 وَلَمّا رَأَيْتُ اْلأَمْرَ ضــــــاقَ وَأَزْبَــــدا تَيَمَّمْتُ بِالْمَدْحِ النَّبيَّ مُحَمَّدا
27 نَبيٌّ بَراهُ اللهُ أَفْضَلَ مَنْ مَشى وَمَـنْ رَكِبَ الْعيسَ الرَّواسِمَ أَوْ غَدا
28 وَخيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ وَصَفيَّهُ وَأَفْضَلَ مَـــــنْ صَلّى وَصــــامَ وَأَهْجَدا
29 وَإِنّي لَمُشْتاقٌ إِلى أَرْضِ يَثْرِبٍ وَشَمِّ ضَريحٍ صـــــــارَ فيهِ مُلَحَّدا
30 لِيَشْفِيَ داءَ الشَّوْقَ مــــــنْ نَفَحاتِهِ وُيثْلِجَ قَلْبًا كـــانَ بِالشَّوْقِ مُغْمَدا
31 وَنَرْكَعَ في تِلْكَ الْمَقاماتِ ما قَضى لَنا مِنْ صَلاةِ الْمُخْلَصينَ تَعَبُّدا
32 نُسَلِّمُ تَسْليمَ الْمُحِبّينَ بــعــدمــــــا نُصَلّي عَلَيْهِ ثــــــــــمّ نُثْني تَحَمُّدا
33 وَنُثْني عَلى الصِّدّيقِ ذي الْعَدْلِ وَالتُّقى وَصاحِبِهِ الْفاروقِ ذي الْبَأْسِ وَالنَّدى
34 وَأَصْحابِهِ وَاْلآلِ طُرًّا يَعُمُّهُمْ سَلامِيَ مــــــا نــــــاحَ الْحَمامُ وَغَرَّدا
كل إمام عادل غائب - مهما افتقده - فالرسول - صلى الله عليه ، وسلم ! - أعز منه لديه فقْدا وأغلى ؛ فلا ريب أن يتعلق بزيارته . وكل عَضُدٍ شديدٍ - مهما فُقِدَ - فالصحابة أئمة الهدى - رضوان الله عليهم ! - أعز منه فقْدا وأغلى ؛ فلا ريب أن يتعلق بزيارتهم .
إنه إذا وفى لإمام ، فإنما له - صلى الله عليه ، وسلم ! - يفي ، وإذا نصره ، فإنما إليهم - رضوان الله عليهم ! - يطمح .
أَفَتُرى يشفع له عند ربه - سبحانه ، وتعالى ! - إخلاصُه ؟
أَمَلُ الشَّفاعَةِ
35 أَلا يا رَسولَ اللهِ يا خَيْرَ شافِعٍ وَداعٍ إِلى الرَّحْمنِ أَوْصى وَأَشْهَدا
36 فَكُنْ شافِعي ِللهِ فـيـمـــــا عَمِلْتُهُ بِعَمْدٍ وَنِسْيانٍ أَتى وَتُعُمِّدا
37 وَإِنّي إِليهِ تائِبٌ مُتَضَرِّعٌ لِيَغْفِرَ ذَنــْبًا كانَ مِنّي عَلى اعْتِدا
38 وَإِنّي َلأَرْجو اللهَ أَخْشى عَذابَهُ وَأَرْجو رَسولَ اللهِ لي شافِعًا غَدا
39 وَإِنْ سَلَفَتْ مِنّي وَساءَتْ خَليقَةٌ فَقَدْ كانَ عَفْوُ اللهِ أَعْلى وَأَمْجَدا
40 وَإِنْ شاءَ تَعْذيبي فَعَدْلٌ قَضاؤُهُ بِفِعْلي وَإِنْ يَرْحَمْ فَفَضْلاً تَعَوَّدا
41 فَكَمْ نِعْمَةٍ أَسْدى وَكَمْ فِتْنَةٍ وَقى وَكَمْ مِحْنَةٍ عافى وَمِنْ ظُلْمَةٍ هَدى
42 وَلَوْ نَطَقَتْ مِنّي الْجَوارِحُ كُلُّها بِشُكْرٍ لَما أَحْصَتْهُ َدهْري تَعَدُّدا
ها هو ذا يموت خوفا ويحيا رجاء ، ويستشفع الرسول - صلى الله عليه ، وسلم ! - بإقراره بتبليغه الرسالة وأدائه الأمانة ، ويسترحم ربه - سبحانه ، وتعالى ! - بإقراره بأنه خطّاء خوّاف ، وبأنه لو عاش يحسن لا يسيء ، لعجز عن وفاء إحدى نعمه التي لا يعلم عددها إلا هو ، وبأنه - سبحانه ، وتعالى ! – الغفار الذي عوده كرمه ؛ فلا يقطع عادته .
لقد اجتمع الخوفُ والرجاءُ في القصيدة عامَّةً ، وفي كل قسم من أقسامها خاصَّةً :
إنه إذا انتمت للخوف " وطأة الخطب " ، و " تأبين الفقيد " و " لوعة الفقد " - انتمت للرجاء " بشرى الخلف " ، و" سلوى الزيارة " ، و " أمل الشفاعة " .
وإذا اشتدَّ الخوف " بوطأة الخطب " ، خفَّفه رجاء الله والانتباه من الغفلة ، أو " بتأبين الفقيد " ، خفَّفه رجاء موالاة المسلمين جميعهم ، أو " بلوعة الفقد " ، خفَّفه رجاء بقاء نعمة الله .
وإذا اشتد الرجاء " ببشرى الخلف " ، خفَّفه خوف ترصد الموت وضياع الهمم ، أو " بسلوى الزيارة " ، خفَّفه خوف ضيق الأمر ، أو " بأمل الشفاعة " ، خفَّفه خوف المحاسبة بالعدل .
هكذا يجتمع الخوف والرجاء في قصيدة الفقيه الفارس ، ويختلطان ، ويَعْتَلِجان . ولو لم تُدْركِ الفقهَ الفروسيةُ ، لانفرد بها الخوف ، أو لم يُدرك الفروسيةَ الفقهُ ، لانفرد بها الرجاء .
ولقد بَذَلَ الشقصي " لوطأة الخطب " أربعة أبيات ، و " لتأبين الفقيد " سبعة ، و " للوعة الفقد " خمسة ، و" لبشرى الخلف " ثمانية ، و" لسلوى الزيارة " عشرة ، و " لأمل الشفاعة " ثمانية ؛ فأوحى بزيادة ما بَذَلَ " لسلوى الزيارة " ، من أبيات ، على ما بَذَلَ لغيرها من مقاطع قصيدته ، بما صار معلوما من آراء فقهاء المسلمين بالضرورة : أنه لن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها .
وَسائِلُ الْقَصيدَةِ
* أخرج الشَّقْصيُّ قصيدته من بَحْرِ الطَّويلِ الْوافي الْمَقْبوضِ اْلعَروضِ والْضَّرْبِ :
وقافيةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُجَرَّدَةِ الدّاليَّةِ الْمَوْصولَةِ بِالْأَلِفِ :
أَ كْ بَ د ا
أما الطويل - ولا سيما صورته هذه - فأشيع بحور الشعر العربي القديم استعمالا ، حتى لقد مَلَّكَهُ عليها بذلك سَيِّدُنا أَبو الْعَلاءِ المَعَرّيُّ ، على منهجه في استيعاب علوم العربية وآدابها وعلوم الإسلام وآدابه والامْتزاج ومَزْج الدنيا بها . وإنما كان أشيعها ، بمناسبته أكثرَ منها ، للموسيقى (الغناء) القديمة الغالبة على الأسماع ، حتى لم يكن لشاعر أن يغفل عنها .
وأما هذه القافية - ولاسيما الدالية وقليلٌ غيرُها معها - فأشيع قوافي الشعر العربي القديم ، استعمالا . وإنما كانت كذلك ، بمناسبتها لطريقة الوقف ، ولمادة متن اللغة من الكلمات .
لقد لان الشقصي لفقهه للشعر العربي القديم الذي لا يستغني عنه فقهه لعلوم الإسلام وآدابه ؛ فقاده إلى ذلك كله ، ولم يكن للبادئ أو المُقِلِّ متى كان صادقا ، إلا أن يلين في يد ما طرأ عليه .
ومن فقهه نفسِه ، تَقْفِيَتُهُ للبيتين الأول ، والسادس والعشرين :
1 ... قَدْ غَدا... أَكْبَدا
26 ... أَزْبَدا ... حَمَّدا
إذ قد علم أن الداخل إلى قصيدة الشعر العربي القديم ، من غير تقفية مَطْلَعِها - وقَريبٌ منها تَصْريعُهُ - كالمُتَسَوِّرِ الداخل من غَيْرِ بابٍ ، وأن تكرار ذلك قبيح إلا أن يبدأ معنى جليلا يريد أن ينبه عليه وكأنه يبدأ قصيدة جديدة ، ولم يكن لديه أجلُّ من استشفاع الرسول الكريم ، صلى الله عليه ، وسلم ! ذلك أحْرى بمن يتحرّى القَبول ويُلْحِفُ في الطلب.
وعلى رغم تأخر زمان الشقصي واشتغاله بالفقه ، غَلَبَتِ على لغته الجَزالةُ !
أجل ، لقد اشتهر الفقهاء والمتأخرون جميعا ، بركاكة الشعر ؛ فأما أولئك فلجفاف أحكام القضاء الذي يطبعهم بطابعه فلا ينفكون منه ، وأما هؤلاء فلعموم ضعف اللغة العربية في زمانهم بضعف أهلها . وأما الشقصي فقد أدركه فقهه للشعر العربي القديم مرة أخرى ؛ فلا ريب في علمه بمنزلة إحكام اللغة منه ، ثم أدركته مخالفة حال المتأخرين العمانيين لحال غيرهم من العرب ، على ما هو معروف .
تتحدر تراكيب لغة القصيدة قديمةً معهودةً ، من شاء وجدها في أية قصيدة قديمة ، أتى بها إلى الشقصي بحرُ الطويل الذي لم ينفد على كثرة المُغترفين ؛ فمِنْ عَطْفِ تركيبٍ يملأ عجز البيت على شَبيهٍ يملأ صدره ، كما في الأبيات : الثاني ، والثامن ، والتاسع ، والعاشر ، والثالث عشر ، وغيرها :
2 وَرَوَّعَ أَهْلَ الأمْنِ في مُسْتَقَرِّهِمْ وَعَمَّ جَميعَ الْحاضِرينَ وَمَنْ بَدا
فها هو ذا قد عطف جملة خبرية فعلية ماضوية (ماض ، فيه فاعل مستتر ، ومفعول به اسم ظاهر ، مضاف إلى اسم ظاهر ، ومعطوف اسم موصول ، بعده صلة جملة فعلية ماضوية : ماض ، فيه فاعل مستتر) – شَغَلَتْ عَجُزَ البيت ، على جملة خبرية فعلية ماضوية (ماض ، فيه فاعل مستتر ، ومفعول به اسم ظاهر ، مضاف إلى اسم ظاهر ، وحال شبه جملة : جار ، ومجرور اسم ظاهر ، مضاف إلى ضمير غيبة) – شَغَلَتْ صَدْرَهُ ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ ، كما تقول العرب !
- إلى تَعْليق جَوابٍ يملأ العجز بشرط يملأ الصدر ، كما في الأبيات : الثاني عشر ، والسابع عشر ، والرابعِ والعشرين ، والسادسِ والعشرين ، والتاسعِ والثلاثين ، والأربعين ، والثاني والأربعين الأخير :
39 وَإِنْ سَلَفَتْ مِنّي وَساءَتْ خَليقَةٌ فَقَدْ كانَ عَفْوُ اللهِ أَعْلى وَأَمْجَدا
فها هو ذا قد أجاب بجملة اسمية منسوخة بفعلٍ ، شَغَلَتْ عَجُزَ البيت ، شَرْطَهُ بجملة فعلية معطوفٍ عليها مِثْلُها ، شَغَلَتْ صَدْرَ البيت .
- إلى قطع مسيرة تركيب ، واسئناف تركيب نعت يتصدر فيه البيتَ منعوتٌ تليه نُعوتٌ مُتعاطفةٌ تملأ شَطْرَيِ البيت ، كما في البيتين الخامس ، والسابع والعشرين :
5 إِمامُ هُدًى قَدْ كانَ فينا مُبارَكًا وَكانَ بِتَوْفيقِ الإلهِ مُسَدَّدا
فها هو ذا قد صَدَّرَ اسما ظاهرا خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، مضافًا إلى اسم ظاهر ، وشغل بقيةَ صدرِ البيت بنعتٍ جملةٍ اسمية منسوخةٍ بفعل ، والعَجُزَ بنعتٍ آخر مِثلِْهِ معطوفٍ جملةٍ اسمية منسوخةٍ بفعل ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ كذلك !
- إلى تقسيم البيت بحيث تُطابقُ أقسامُ التَّراكيبِ أقسامَ الوزن ، كما في قوله :
41 فَكَمْ نِعْمَةٍ أَسْدى وَكَمْ فِتْنَةٍ وَقى وَكَمْ مِحْنَةٍ عافى وَمِنْ ظُلْمَةٍ هَدى
فها هو ذا قد أخرج أقسامَ بيت الطويل المُمْتَزِجِ (المتكررة فيه تفعيلتان مختلفتان) المثمن (ذي الثماني التفاعيل) ، الأربعةَ - من أقسام أربعةٍ من تكرار تركيب الجملة الفعلية المتقدمِ على فعلها مُتَعَلَّقُهُ :
فَكَمْ نِعْمَةٍ أَسْدى = فعولن مفاعيلن
وَكَمْ فِتْنَةٍ وَقى = فعولن مفاعلن
وَكَمْ مِحْنَةٍ عافى = فعولن مفاعيلن
وَمِنْ ظُلْمَةٍ هَدى = فعولن مفاعلن
وقد خَفََّفَ من صَنْعَتِهِ فيه ، عَدَمُ تمسكه بسجع أواخرها - وإن ختمتها جميعا الألف المقصورة الأصلية ؛ فليست بصوت سجعٍ قوي - ولا " بكَمْ " في القسم الأخير.
ولا غريبَ في القصيدة عن لغة زماننا ، يعوق الجزالة ، غيرُ كلمة " الرَّواسِم " أيِ الإِبِلِ الْعادِيَة ، وهي على رغم احتمال ألا تكون غريبة عن لغة زمانه ، لطيفةُ الوَقْع ملتبسة لدينا بجمع " راسمة " القريب منا .
ولا حشو لإكمال عروض القصيدة يفسد الجزالة ، إلا " حُلولُه " في البيت الرابع ، و"مُلْحَدا" في البيت الرابع عشر ، و" أَثْنى " في البيت العاشر ، و" يَنْفَدا " في البيت السادس عشر ، و" تَعَبُّدا " في البيت الحادي والثلاثين ، و" تَحَمُّدا " في البيت الثاني والثلاثين ، و" تُعُمِّدا " في البيت السادس والثلاثين ، وأكثرها من كلمات القافية العامة البلوى في الشعر العربي العمودي !
ولا ضَرائرَ تُغَيِّرُ اللغةَ لِتُسَلِّمَ عَروض القصيدة ، إلا منعُ صرف " مُرْشِدا " في البيت الرابع ، وزيادة همزة " أَثْنى " في البيت العاشر ، وإثبات نون المضاف " مُوالون " في البيت الحادي عشر ، وكلٌّ منها قليلة غير شائعة - وحذف فاء جواب الشرط من " كَذا " في البيت الرابع والعشرين ، وهي كثيرة شائعة .
http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=1533
ملاحظة /
قمت بنقلها تماما كما هي من حيث وجدتها وذلك لأنه أعجبني تحليل الكاتب ، فنقلتها كما هي للفائدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق